سيحوا تطيبوا، فإنّ الماء إذا ساح طاب، وإذا أطال مقامه في موضع تغيَّر
بشر الحافي
العمر، كل العمر سفر… نقلة من أرض إلى أرض ومن حال إلى حال ومن مقام إلى مقام فكراً وجسداً، قلباً وعقلاً. وإن استقر بالعمر المكان بقي الزمان فيه مرتحلاً أو يبقى هو المرتحل في الزمان من حاضر إلى حاض
والسائح المسافر أقرب إلى حقيقته كرحالة في هذه الحياة، وهو المسافر إلى فرح الاغتراب عن الشواغل وإن تعثر في رحلته بحبائل ما يأمل ويشتهي. لكنه بالحاصل شاهد في سياحته غير منغمس ولا متجذر في مكانه وزمانه الطارئين، بل كأنه مجرد قائم في اللازمان واللامكان. كأنه يطالع الجفرافيا ولا يمتد فيها، يعايش الزمان ولا يستهلكه، فهو أقرب إلى الذات الذي هو هو، سابحاً لا غارقاً، شاهداً لا فاعلاً. السائح منسلخ عن تربة ما كان يفترضه واقعاً يتماهى معه على أنه المنبت، وهو بعد غير متصل بالمشهد إلا من حيث كونه مشهداً لا مرتكزاً. مرتكز السائح ذاته. فرح السفر إذن ليس فرح فضول وتشتت، أو جوعاً للتجارب واستهلاكاً فيها، إنما هو فرح الانفصال عن الاستنزاف بالمُعاش اليومي والاتصال بمركزية الذا
يريحك في سفرك أن ما تركتَ خلفك باقٍ من دون أن يكون عبئاً، حاضر من دون أن يكون مُعاشاَ، كائن وغير كائن في آن. أما حاضرك فليس شُغُلاً ولا ثقلاً، ولا مادة للاصطفاف ولا للمواقف، تمر فيه أو يمر فيك ولا تحمله بل تحملك لحظته. في المدينة الغريبة تتنفس وإن كانت خانقة، تمشي وإن كانت مكتظة. في البلد الغريب لا تربكك تفاصيل السياسة والاقتصاد ولا يشغلك تنافس المتنافسين. هناك تجد نفسك قابلاً بسرور ما هو كائن من دون حكم أو إدانة، فهناك أنت لست طرفاً. هناك أنت الشاهد الصامت لا غير
والسائح من ثم مدركٌ لحتمية زوالِ المشهود مهما حاول التمسك به، وبقاءِ الشاهد مهما حاول التنكرَ له، مدركٌ لتقلب الصور المنزّلة على شاشة الوعي، مدركٌ لسرعة انقضاء التجارب مهما كانت شائقة أو شاقة ومهما كان عمق رغبته بالاحتفاظ بها أو تثبيتها فيه
هو أقرب إلى الحقيقة في كثير من أبعادها وإن لم يلتقطها عقله لكنها حتماً في صميم اختباره
قلّ من يعلم أن ابن بطوطة يوم خرج من طنجة مرتحلاً في أصقاع الأرض إنما خرج في رحلة روح بحثاً عن العرفان والعارفين… ولست أدري إن كان هو أدرك أنه بمجرد ارتحاله كان إليهما أشد قرباً منه إلى الأرض التي تحمله
سيحوا… فإن الماء إذا ساح طاب