لعل من أكثر التجارب ندرة تلك التي تقودك فيها لحظات تظنها عشوائية إلى يقين مفاده أن الوعي الذي توجه من المركز إلى المحيط فصار فكراً، ولم يكن بعد من مركز ولا محيط، لم يزل وعياً صافياً كما كان، برغم كل الرفض المعتاد الذي تولده سذاجة تجربتنا اليومية المغرقة في تصديقها لمظاهر الفكر وحركته. لكن تلك اللحظات، على ندرتها، تبقى أكثر فعلاً في حياتياتنا المعاشة وأشد أثراً فيها من شهورٍ كثيرة وأعوام. لا بل كأنها هي الحياة بأسرها وكل ما سواها لم يكن إلا لتكون هي. فتجد تلك اللحظات في النهاية وقد خلعت عنها عشوائيتها لتتجلى كحتمية لا مفر منها، قائمة منذ الأزل، حقيقة جلية كالشمس، لا شك فيها ولا مراء
تلك اللحظات ليست لحظات حركة أو انتقال، إنما هي ثبات واستغراق في سكون ما هو كائن. إنها لحظات صمت يبدو معها كل آخر نافلاً طارئاً وكل فكرة، حتى فكرة إدراكك للصمت، ضجيجاً مؤلماً. في ذلك السكون تستوي جميع الأدوار وتمّحي جميع الحدود… فليس إلا السكون وحده، عارياً من كل تموج، مجرداً من كل اتجاه، خالياً من كل محتوى، مسقطاً عنه كل تاريخ وكل صباغ وكل هوية. هناك السكون هو الوعي الصافي، هو الناظر والمنظور والنظر هوالسامع والمسموع والسمع، هو كل شيء ولا شيء معاً
وإن كانت تلك التجارب في معظمها تجارب ذاتية محضة لا دور للظرف النسبي الموضوعي في ولادتها إلا أنها أيضاً قد توافيك وأنت في سياحة عابرة هنا أو هناك، كأنْ تقف عند تلك الحافة محاطاً بالجبال القاسية، مشرفاً على ذلك الوادي الجليل في ضانا الأردن… هناك في عمق السكون الأخّاذ يتهاوى الجدار الفاصل بين الخارج والداخل فلا يعود الخارج إلا بعض الداخل، كما يذوب الأخر في الذات، أو ربما هو الذات* الذي يتمدد إلى ما هو عليه حقاً فلا يعود ثمة من آخر. هناك حيث تمتزج السماء والأرض في سكون عصي على العقل، لا يتسع له إدراك، بل كأنما هو الحاضن الذي وسع الإدراك والسموات والأرض وما بينهما. هناك السكون والوعي واحد أحد. لا وعي إلا السكون ولا سكون إلا الوعي الصافي الخالي من كل غرض. هناك تقف ناظراً منظوراً متحركاً ساكناً، كأنك صاح في نومك العميق
لقد كان القدماء أرهف منا حسّاّ وألطف وعياً إذ كانوا يختارون لآلهتهم مساكن كتلك في الغابات الصماء والجبال العصية والأودية السحيقة حيث السكون ولا شيء سواه… فهناك تمشي الألوهة في كل ممر وتعبر مع كل نسمة… في مثل تلك الاماكن تدرك حقاً أن الله “كان ولا شيء معه”، ويقيناً أنه ما زال”الآن على ما كان عليه”(1)
———
* نعامل كلمة الذات هنا معاملة المذكر عمداً
1. ”من الحديث الشريف قوله “كان الله ولا شيء معه” وفسر بعض العارفين قائلاً “وهو الآن كما كان عليه