لعل أكبر لغط يعانيه أبناء زماننا فيما يخص جوهر السلوك الروحي هو ذاك المتولد من مجموعة أفكار رُوّج لها منذ نهاية القرن التاسع عشر ومازالت تجتذب إليها الملايين من الأشخاص حول العالم فيما عرف باسم “فكر العصر الجديد” أو new age thought. وقد شهدت العقود الماضية انتشاراً غير مسبوق لهذا الفكر بما يحمله من تبشير بما يسمى “قانون الجذب، والتفكير الإيجابي”، بعد صدور كتاب “السر” وتحوله إلى “إنجيل جديد” لكل من يود أن يستخدم قوة الفكر الإيجابي لصناعة واقع جديد. وهنا بلغ اللغط أشده مع تحول اليوغا والروحانية الشرقية بنسختها الغربية إلى مزيج من الاتجاهات المتوعة الغريبة بمعظمها عن السلوك الروحي الجدي.
عندما ننظر إلى الأغراض أو الظروف أو الأشخاص نجد أنفسنا أمام ثلاث مقاربات: أن نقارب الشيء على ما هو عليه، أو أن كما نراه نحن من حيث نحن، أو أن نراه من حيث نود له أن يكون. المقاربتان الأخيرتان بعيدتان بالتأكيد عن الشيء قريبتان منّا ومن رغباتنا: أولاهما محكومة بمحدودية فهمنا والثانية محكومة بتقلب رغباتنا. وعندما تواجهنا ظروف الحياة نجدنا أمام امكانيتين: قبولها والشكر، أو رفضها والتعلل بأمل غد أفضل.
أتذكر في هذا السياق أحد أهم المعلمين الهنود في القرن العشرين، سوامي شفانند الذي يحذر تلاميذه من الأمل ويصفه بالسمّ القاتل. شفانند نفسه وضع كتاباً ذائع الصيت يتحدث فيه عن قوة التفكير الإيجابي. فكيف جمع النقيضين؟
الحقيقة هي أنه كان في الموقفين كان يخاطب جمهورين مختلفين تماماً… أما الأشخاص المنهمكون في تسيير شؤون حياتهم اليومية فقدم لهم ما يمكن أن يستحث الفكر ويعلل بالأمل بينما تُصقل المرآة ويشتد العضد. أما الخاصة من تلاميذه الجادين في اجتثاث جذور الأنا فقد كان يضن بهم أن يغرقوا في بحر الرغبات والآمال. أولئك تجاوزوا مرحلة الأمل إلى مرحلة الفهم الصحيح، ولن يفيدهم شيئاً أن يزجوا الوقت “في فسحة الأمل” التي تُنعش الأنا. أولئك كانوا أشداء بما يكفي لتقبل كل شيء وكأنه نهاية بذاته. كان عليهم أن يمارسوا نوعاً واحداً من التفكير هو التمييز الفيدانتي بين ما هو حقيقي (الذات، المدرِك) وما هو غير حقيقي (الفكر، الجسد، العالم | المُدرَك). كان عليهم أن يتجاوزوا تقلبات الفكر الخمسة التي عددها بتنجل Patanjali بصنفيها الإيجابي والسلبي أو المتلون وغير المتلون.
إذا حاولنا مقاربة الأشياء (الظروف، أو الحياة) من حيث هي، نجد أن النظرتين السلبية والإيجابية (بمفهومهما الشائع) وجهان لعملة واحدة. فكلاهما من صنع الأهواء. ما هو الإيجابي وبالنسبة لمن اتخذ تلك الصفة؟ وبالنسبة لمن ظهر السلبي سلبياً؟ هل هاتان الصفتان من جوهر الأشياء (الظروف) أم أنهما تتغيران بتغير مصلحة الفرد ورغباته؟ وهل أن من يطلق الصفة هذه أو تلك على الأشياء عليم بأبعاد الحدث الذي يصفه؟ بل هل هو قادر على قراءة شيء من تداعياته فيما يتعدى رأس أنفه؟ وماذا يجدينا أن ننظر إلى الكون من خلال عدسات ملونة قاتمة كانت أم زاهية؟ أوليس كلاهما تعكيراً للرؤية الصافية الصحيحة؟
الأشياء بذاتها لا يمكن أن تحمل لوناً أو صبغة، إنما الصبغة واللون من صنع مرآتنا. الفكر (الإيغو) يسبغ على الواقع الموضوعي شخصانية هو براء منها. هذا الفكر عينه (وهو المقيم دائماً في الماضي وفي المستقبل لا في اللحظة الراهنة) يسكر بالأمل وينظر إلى ما هو آت لا إلى ما هو كائن، وسواء نظر إلى الآتي متوهماً فيه الخير أو متوجساً منه الشر يبقى مغترباً عن حقيقة ما هو كائن سابحاً في أوهامه. الآن الراهن ليس مقدمة سببية للواحق زمانية. هو هو ولا سواه. الآن لا لون له، ولا صبغة، ولا حصر، ولا تموج للفكر فيه. وخارج إطار الفكر وعواطفه لا يمكن للتصنيفات أن تستقيم. فتماماً كما يُسقط المتشائم أفكاره السلبية على حدث ما يسقط المتفائل أفكاره الإيجابية عليه. لكن الحدث براء من النظرتين. الحدث هو هو.
السلبي والإيجابي رهن برغبات الفكر (الأنا). فتراه يَصِمُ ما يهواه بالخيّر والإيجابي وما ينفر منه بالشرير والسلبي. وهل هذا الفكر الذي يعييه أن يتذكر بعض تفاصيل صباحه راشد كفاية ليملي على الكون تصنيفاته، وهل هذا النظر الذي يرتد حاسراً عن رؤية بضعة حروف دقيقة جلي كفاية ليميز ما تقدمه له يد العناية بين سلبي وإيجابي… ليس التصنيف إلا انتفاخاً للأنا الواهمة وثقة غير مبررة بقدرتها على معرفة نهايات الأشياء وغاياتها. وليس التعلق بالأمل إلا من الرغبة الخفية. وما التطلع إلى أمر ومحاولة “جذبه” إلا تعلق بالفانيات. والطريق الروحي الحق لا يكون إلا بترك الرغبات والرضا والتسليم. أقول الطريق الروحي وأعنيه حصراً. أعني الطريق الضيق الذي يبدأ وينتهي في “لتكن مشيئتك” لا مشيئتي… وهل أفضل من التصالح مع الحياة التي لا تتجزأ لا بل عناقها بكل ما فيها من اختبارات من دون رفض هذا والتعلق بذاك؟ تلك هي الإيجابية الحقيقية البناءة روحياً. تلك هي الحرية التي لا يعيقها قيد ولا يحصرها جدار. تلك هي الغبطة الكبرى وطوبى لمن نالها…